أنوار السماء تحرر العلم

بقلم / ياسر الغرباوي *

في الأسبوع المنصرم طلب منى صديق عزيز مهتم بالثقافة والفن أن أُشارك في الاحتفال بيوم العلم العالمي، والذي يوافق يوم 10نوفمبر من كل عام؛ إذ جعلت الأمم المتحدة شعار الاحتفال هذه السنة هو ❞ العلم مع المجتمع ومنفعته ❝، فوجدت أن ذكرياتي مع غار حراء تتقاطع مع اليوم العالمي للعلم كما يتقاطع المُزن في السماء مع تيارات الهواء ؛إذ حرصت في رحلتي الأخيرة للعمرة على الذهاب إلى بعض الأماكن الوثيقة الصلة بسيرة ومسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهبت لغار حراء القابع على رأس جبل النور في مكة المُكرمة واستقليت السيارة من أمام الكعبة المُشرقة متجهاً صوب جبل النور، ووصلت تحت أقدام الجبل بعد قرابة خمسة وعشرون دقيقة ،فقال لي السائق: هذا جبل النور تفضل يا أستاذ، فانطلقت في رحلة الصعود إلى أعلى قمة الجبل؛ فالغار لا يقع في منتصف الجبل ولا في أحد جوانبه، وإنما اختار أن يستقر فوق قمة الجبل وكأنه يعرف سمو ورقي ما سوف يتلقاه من نور قادم من السماء على أجنحة جبريل، ويُدرك أن ضيفاً كريما سيقيم فيه (محمد صلى الله عليه وسلم ) والذي سيجلس مرتقباً ومتفكراً ومنتظراً الفرج والنور من السماء بعدما لم يجد ما يسعفه على وجه الأرض ،فغار حراء هو أول شاهد على التقاء نور السماء بإشراقات قلب محمد صلى الله عليه وسلم الباحث عن الهداية والرشاد

ووقفت بجوار الغار ونظرت لبيت الله الحرام كما كان يفعل الرسول الأكرم، وعندها انهمرت الخواطر على كما تنهمر حباب المطر الثقيلة على لوح زجاجي ألمس، فحاولت الإمساك بأفضلها معناً وأكثرها وضوحا وأعمقها أثرا فكان هذا السؤال: لماذا كان أول ما نزل من الوحي في هذا المكان المُوحش اقرأ؟؟ وما القيمة المعرفية الجديدة لهذا الأمر الإلهي؟؟ خاصة وأن الشعوب المجاورة لمكة عرفت القراءة والكتابة قبل الرسول الأمين منذ مئات السنين؟؟ فحصلت على بعض الخواطر السريعة حول السؤال ولكنها لم تشف غليلي وبعد قرابة عشرين يوماً من رحلتي إلى غار حراء وصل وحي الإجابة إلى رُوعي، صحيح أن القراءة والكتابة كانت موجودة في الحضارة المصرية والعراقية القديمة وكانت معروفة لرجال الكنائس في بلاد المشرق والمغرب لكنها كانت مهارة محصورة ومُحاصرة في نفر وطبقة من الناس دون غيرهم، فهم الذين يقرؤون للناس، فالكنيسة تقرأ للمؤمنين الذين لا ينبغي لهم أن يمارسوا قراءة الكتاب المُقدس بعقولهم القاصرة!!، وكهنة أمون في مصر الفرعونية هم من يحتكرون مخاطبة الآلهة وربطهم بالخلق والناس!! ،فجاء الوحي ليطلق ممكنات الإنسان نحو الرقي والتحضر دون انتظار موافقة من أحد أو سماح من جهة أو ترخيص من مؤسسة؛ فأول طرق تحرر الإنسان وانعتاقه من العبودية أن يتعلم وأن يقرأ وأن يعي نفسه وكونه، ويتعرف منها بعد ذلك على ربه، فالوحي الذي نزل على قلب محمد في هذا المكان الصامت والبالغ الخشوع؛ جاء ليفتتح للبشرية عصراً جديداً يعطي لكل فرد حقه في التعلم والوصول إلى المعرفة والثقافة، فكانت أولى حبات العقد في رحلة الوحي هي كلمة اقرأ حتى تتحرر وسيلة الترقي الإنساني (العلم) من سطوة الكهنة والسدنة والدجالين لتصبح متاحةً للناس أجمعين، وبذلك يكون الإسلام قد أهدى البشرية مفتاحاً ذهبياً قادراً على فتح بوابات الخير والمعرفة والسعادة لها مادامت السموات والأرض .

*الكاتب والباحث ورئيس قسم البحوث بمركز الوجدان الحضاري .