نجيب طوايبية *

انثالت الأسئلة على ذهني تباعاً وأنا أتنقّل بين عددٍ من الكتب الفكرية الّتي عالجت موضوع أزمتنا الحضارية، مطالعاً ومحلّلاً لعلّي أحيط بأسباب تخلفنا الحضاري وأفهم طبيعة المعوّقات الّتي تقف حائلاً دون نهضةٍ علمية معرفية في عالمنا العربي. كانت أغلب تساؤلاتي مندمجةً و متماهية مع الأسئلة الّتي طرحها مؤلفو تلك الكتب. أفكّر واستشكل معهم أسباب الأزمة، أشعر بقلقهم الفكري، وثقل المهمة الّتي تصدوا لها…إلى أنْ قفز إلى ذهني سؤالٌ بدا لي أنّه محوري، يرتبط بالشكل مثلما يرتبط بالمضمون. وقبل أن أكشف عن هذا السؤال، أفضّل أن أعرض جواباً له دارجاً على ألسنة الناس، حتى ممّن يعدّون من النخبة، وهو يتضمّن وصفةً سريعةً للنهضة:
“علينا أن نتمسك بهويتنا وعقيدتنا وسيتغير حالنا حتماً إلى الأفضل ونحقّق النهضة المنشودة. أمّا ما تجدونه لدى البعض من تنميقٍ للكلمات وتعقيدٍ في المصطلحات، فما هو إلاّ ترفٌ فكري لن يزيد الطين إلاّ بلة “.
قد يبدو هذا القول تسطيحاً وتبسيطاً لمشكلٍ معقّد، خاصةً إذا طلبنا من القائل أن يخبرنا كيف ستتم عملياً، العودة إلى الأصول ثمّ التمسك بها ؟؟ غير أنّ انتشاره -بصيغٍ أكثر بساطةً أحياناً-يدفع في رأيي إلى ضرورة الاهتمام به في سياق معالجة النزعة التبسيطية والاختزالية الّتي أصبحت تسم العقل العربي، باعتبار ذلك خطوةٌ منهجيةً أولى ستساهم في الانتقال من طور التفكير إلى طور العمل والمبادرة، كي نبلغ فيما بعد مرحلة النهضة الحضارية الفعلية.
أمّا السؤال الأول الّذي طرحته على نفسي فهو الآتي: ما هو الحدّ الفاصل بين ضرورة إعمال الفكر من أجل إدراك وتحليل قضايانا الراهنة، وخطر السقوط في حلقةٍ مفرغة من الترف الفكري الّذي ينزع أحياناً إلى اختلاق قضايا وهمية أو التبحر في مواضيع ثانوية، لينتهي حتماً بالابتعاد عن الفاعلية؟ ما هي المؤشرات والمعايير الّتي تجعلنا نفرّق بين ما هو تقعيد وما هو تعقيد؟ بين التحليل العميق والتسطيح العقيم؟ والفرق هنا ليس في ترتيب الحروف فقط…
ويرتبط بهذا السؤال أسئلةً أخرى عديدة:
هل كلّ النظريات والرؤى الفكرية بمختلف تشعباتها يمكن أن تكون لها إسقاطاتٌ عملية على واقعنا؟
إذا كان مقرّرا أنّ النهضة الحضارية تقودها وتؤطّرها النخبة، فهل هذا يعني أنّ العامة من الناس لا يعنيهم الخطاب النهضوي والتأصيل الفكري؟ هل هم مجرّد أدواتٍ يُطلب منها التنفيذ فحسب؟
ألا يحتاج النتاج الفكري إلى التبسيط كمرحلةٍ أولى قبل أن يتحوّل إلى فعل؟
أتصوّر أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة ستمهّد إلى التأصيل لفقه الحضارة، ولست أدّعي هنا القدرة على تقديم أجوبةٍ نهائية، بل سيلحظ القارئ أنّ عدد الأسئلة أكبر من عدد الأجوبة. لكنّني سأحاول أن أقدّم لكلّ مهتمٍ إضاءاتٍ سريعة تنير له الدرب لِيصل إلى أجوبةِ أتمّ وأشمل.
أوّلاً: علينا أن نعترف أنّ بعض المعالجات الفكرية هي فعلاً ترفٌ، وسفسطةٌ، ونسجٌ على منوال فلسفاتٍ غربية لا تمت بصلة لواقعنا. غير أنّ ذلك ليس مسوغاً لرفض كلّ الجهود الفكرية والتمادي في التصنيفات والإقصاءات.
ثانياً: فقه الحضارة المرتبط بعقيدتنا هو المدخل الأساس لمعالجة قضية التخلف الحضاري، ولا ينفي ذلك وجود مداخل أخرى وإمكانية طرح حلولٍ في مجالاتٍ محدّدة ودقيقة. لكنّها ستبقى متّسمةً بالمحدودية والظرفية بسبب عدم ارتباطها بنسقٍ حضاري ومنهجٍ فكري واضحٍ وموحّد. ومن المقرّر شرعا أنّه لا تعارض بين إعمال الفكر ومبادئ العقيدة، فالتفكير واجبٌ وعبادة.
ثالثاً: قد تكون مشكلة تخلفنا الحضاري بسيطةً من حيث الوصف (أقول هذا بكلّ تحفظ)، لكنّها قطعاً، معقّدة من حيث الحلول. فالتخلف ظاهرةٌ متداخلة، تبرز وتستشري عندما تتوفّر أسبابٌ كثيرة. كما أنّ النهضة ظاهرةٌ مركبة تستدعي تآلفاً وتآزراً بين عوامل عدّة. ومن ثَمّ، كان من المنطقي أن تكون دراسة هذه الظاهرة معقّدة أيضاً، سواءً من حيث المناهج المستخدمة في تحليلها، أو المخرجات والحلول المقترحة. فعلى القارئ والباحث أن يتقبّل هذه الصعوبة ويتعلّم كيف يتعامل معها. أمّا المشتغل بفقه الحضارة، فهو ليس مجبراً بأن يُبسّط فكرته بقدر ما هو ملزمٌ بعدم تعمد التعقيد.
رابعاً: من الطبيعي أن يكون لكلّ مفكرٍ معجمٌ اصطلاحي خاصٌ به، قد يجد غير المتخصص وحتى المتخصص صعوبةً في الإحاطة به وفهمه، فالتأصيل النظري والحفر الفكري له أدواته ولغته.
خامساً: البناء الحضاري مهمة الجميع دون استثناء، وعلى كلّ فردٍ أن يفقه، حسب مستوى إدراكه وحجم مسؤوليته، ما هو منوطٌ به، ويجب أن يرى الهدف ماثلاً أمام عينيه وثماره في المتناول. لذا، على المفكّر، أو لنسميه فقيه الحضارة، أن يصوغ منهجاً واضحاً للنهضة قابلٍ للتطبيق، وإلاّ وُصف بأنّه يخاطب نفسه ويمارس ترفاً لا فائدة ترجى منه.
مؤكّداً على هذا المبدأ، أختم لأقول: إنّ الفكر الفعّال هو الّذي يحمل في طياته أسباب فاعليته وانتاجيته، أمّا إذا كان يحمل بذور فنائه فسيصير سبباً آخر يُضاف إلى أسباب تخلفنا.

*مترجم وباحث