في العام 1974 بينما كان ثلاثة من الفلاحين الصينيين يحفرون بئرا قريبا من مدينة “شيان” عثروا على مقبرة ضخمة، يرقد فيها ثمانية آلاف تمثال من الفخار لمحاربين، ومعهم عرباتهم وأحصنتهم.*

اكتشاف مذهل.. كان مقبرة للملك تشينغ الأول، مؤسس أسرة تشينج، فقد أراد “تشينغ” -عندما اقترب موته- أن يدفن معه حرسه الخاص، وهم أحياء بمعداتهم وخيلهم، حتى يدافعوا عنه بعد موته، غير أن أحد الوزراء نصحه بأن يستبدل الجنود بتماثيل الفخار، فاستجاب الملك، وأفلت الآلاف الثمانية من الموت.

قصة استهانة الحضارات بالإنسان متكررة في التاريخ، وتبدو بوضوح في قصة بناء الأهرامات التي استمرت ثلاثين عاما، نقل فيها الفلاحون والعمال ثمانمائة مليون قطعة حجر من أقصى جنوب مصر، لمسافة تسعمائة كيلو متر، فبنيت تسعة أهرامات، منها: ثلاثة أهرامات كبيرة وشهيرة، يرقد فيها الفرعون ميتا، وبعيدا عن الأهرام ترى كومة من الأحجار المبعثرة يرقد فيها البناة الحقيقون للأهرامات، آلاف ماتوا من الإجهاد والقسوة والجوع، لكن الفرعون صمم أن يدفنهم قريبا منه ليخدموا في العالم الآخر، وأي شخص يزور الأهرام ينبهر بالأحجار، ولا يلتفت للإنسان الراقد في قبر بائس قريبا منها، أنصفت الحضارة الحجر وخذلت الإنسان.

كل مقابر التاريخ العجيبة وقصوره الفارهة، وقلاعه الحصينة ورائها إنسان مجهول مقهور، فـ”سور الصين العظيم” الذي يمتد خمسة آلاف كيلو متر، كان العمال الذين يموتون، توضع جثامينهم في شقوق الحوائط، لتخلد ذكراهم.

لكن أين الإنسان في الحضارة؟ وهل تُمنح الحضارات أعمارا في التاريخ، إذا منحت الإنسان اهتمامها؟

الحضارات العظيمة هي التي تُطلق كوامن الإنسان ودوافعه وتحمي كرامته، فالنموذج الشيوعي السوفيتي أهدر الإنسان ببشاعة فكان قصير العمر في التاريخ (حوالي سبعون عاما عمر يتقرب من عمر إنسان) بينما النموذج الليبرالي منح بعض الاعتبار للإنسان فأعلن “نهاية التاريخ” عند تجربته الحضارية.

في كتاب “الحضارة” لحسين مؤنس، تلمس إشكالية مقاييس الحضارة، ويبدو أن الإجابة عليها تلخص رحلة الإنسان في التاريخ، وطبيعة حضوره في أحداثه ومنجزاته، ومقدار قيمته في التجارب الحضارية المختلفة، وخلص “مؤنس إلى” أن المعنوي مقدم على المادي كمقياس للتحضر”، فالبيزنطي لم يكن أرقى من العربي حضاريا لحظة ظهور الإسلام، لأن العربي كانت حريته طليقة وقتها، فالسلطة القاهرة لا تخلق شخصية مكتملة، والاستبداد لا يعترف بالإنسان.

ميزان النفع

يمكن اعتبار النفع هو أحد المقاييس الحضارة، فكلما زاد المنتفعين من الحضارة ومنجزها كانت الحضارة أرقى وأبقى، فمقابر العظماء، وقصور السلطان ليست في ميزان النفع شيئا للإنسان، فأفضل المنجزات ما جعلت حياة الناس أكثر سهولة ويسرا وسعادة وأوجدت حلولا لمشكلاته وخلقت طمأنينة في واقعه، فطلمبة المياه للإنسان التي يرتوي منها هو وزراعته في ميزان النفع أعظم من الوصول للكوكب الأحمر، بل إن بعض الاختراعات والمنجزات قد تكون نقمة على الإنسان، ولعل القنبلة النووية أكبر دليل على ذلك.

وهناك دراسات حديثة أجريت عام 2015 عن تأثير تكنولوجيا الاتصال في العلاقات الاجتماعية، وأثبتت أن “الموبايل” أوجد جزرا منعزلة في الأسرة الواحدة تحت السقف الواحد، فهناك حرمان من الدفء الإنساني بعد احتلال التكنولوجي لتلك المساحة التي كانت محررة إنسانيا منذ الخليقة الأولى، وفي كتاب “غاندي” يذكر “عباس محمود العقاد” أن غاندي كان يرى أن حضارة الآلة تحجب الإنسان عن المطالبة بحاجاته العليا، وأنها تخلق له حاجات يمكنه الاستغناء عنها لتستعبده بها.

الحضارة الحقيقة تضع الآلة في خدمة الإنسان، أما وضع الإنسان ليكون خادما مطيعا للآلة فليس من الحضارة في شيء، لأن التحضر ليس استحواذا على آخر الموديلات من الموبايل والسيارات، ولكنه إعادة بناء الإنسان ليكتشف ذاته والكون، وكما يؤكد “مؤنس” “أن الهدف من كل الجهود الحضارية هو النهوض بالإنسان نفسه فإذا بقي على جهالته ووحشيته وضلالته وانتكس وتدهور، فما قيمة الرقي المادي في ذاته؟!” فما الفائدة -كما يقول الأديب “غسان كنفاني- من أن “يضع الإنسان نفسه في سيارة، مستفيداً من الحضارة، ثم تبقى المسافة بينه وبين إنسانيته معطلة تماماً” لذا فأي حضارة تعطل الإنسانية تبقى حضارة غير مكتملة.

وربما أكبر ما يعطل إنسانية الإنسان ويعيقها عن التحضر هو غياب ميزان العدل، لأن باطنه الحقيقي هو احتقار الإنسان، ويقينه قائم على أن الناس غير متساويين، وربما هذا ما استوقف عنده الرحالة المغربي الشهير “ابن بطوطة” الذي استمرت رحلته عشرات السنين، تعامل فيها مع الإنسان بكافة أديانه وثقافته مستواه المادي وحضاراته المختلفة، فكان مقياسه للتحضر هو العدل والإنصاف، فعلى أساسه كان يحكم على الناس وتحضرهم.

ميزان الإنسان

الإنسان هو المعيار الأول للحضارة، هكذا يذهب “مالك بن نبي” فالقيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان، فليس الاقتصاد إنشاء بنك وتشييد مصنع، ولكنه قبل ذلك هو تشييد الإنسان وتعبئة طاقاته الاجتماعية في مشروع تحركه إرادة حضارية، فـ”كونوا حجارة أو حديدا” إذا غادرت الحضارة محطة الإنسان، وإذا هي أفقدت الإنسان إنسانيته، أو جعلته حجرا في بناء أو إسمنتا في جدار، فهذه الحضارة بلا باطن أو روح، حضارة تتأسس على قشرة مهما كانت صلابتها وسمكها، حضارة تعيد الإنسان إلى تكوينه الأول من التراب والطين والحمأ المسنون ذلك التكوين الذي سخر منه إبليس في لحظة الخليقة الأولى، ولا تتوقف جهوده أن يكون الإنسان هو ذلك التكوين منزوعا منه روحه السماوية.

لذلك عندما دعي الشيخ محمد عبده لكتابة مقالة عن محمد علي باشا عام 1905 بمناسبة مائة عام على حكمه لمصر، فكتب ذلك المصلح مقالا نادرا يكشف عن الفلسفة العميقة للتاريخ والحضارة، ومما قاله عن الباشا مؤسس مصر الحديثة: ” لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت… فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه… ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي… كان محمد علي مستبدا ماهرا، لمصر قاهرا، ولحياتها الحقيقية مُعدِما” نعم فالحضارة النافعة لا تنبت إلا فى البشر ذوي الإباء والأرواح الطليقة، ومن المستحيل أن تؤسس حضارة حقيقية على العبودية والكراهية والخوف والاستبداد، ستكون بذلك التأسيس الخاطئ حضارة عدوة للإنسان، فالحضارة للإنسان وبالإنسان وفى خدمة الإنسان.

والشيء المخيف أن ينطبق علينا قول نزار قباني: “خلاصة القضية لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية”

* تم اكتشاف المقبرة عن طريق المصادفة عام 1974 م من قبل المزارعين المحليين عندما كانوا يحفرون بئر ماء بالقرب من شيان بمقاطعة شنشي،

 

مصطفى عاشور