في العام 1871 التقى الشيخ محمد عبده بالثائر جمال الدين الأفغاني، كان الرجل ذا عقل مختلف وكلام مغاير، كلماته مغموسة في روحه ووجدانه وقادرة على تحريك مكامن الطاقة في النفس.

لم يكن اللقاء عابرا وكذلك الكلمات، يصف الشيخ محمد عبده تأثيره عليه بقوله: “أتت كلماته على ما عندي من متاع قديم فأحرقته”

ما هذه القوة الطاغية التي وصفها الشيخ لكلمات الأفغاني.

وما هذه القوة التي تكمن في الكلمة والناس عنها غافلون.

من يطالع سير العظماء والمشاهير ومذكراتهم سيجد في غالبيتها أن جزءا من تغيير المسار أو تفجير طاقات النفس ومنحها قوة في لحظة ضعف طاغية، كانت الكلمة هي السر الأكبر في ذلك التغيير والانطلاق.

لذا لم يكن غريبا أن يؤكد ذلك نجيب محفوظ بقوله:” أننا نسير في الحياة على ضوء كلمات”.أو عباس العقاد  في” أن الكلمة أكبر الفتوح الإنسانية في عالم الكشف والاختراع”.

أو مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة” “إن الكلمة تسهم في خلق الظاهرة الاجتماعية عندما  تدخل إلى سويداء القلب وتستقر معانيها داخله فتحوله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة”.

فالكلمة تستطيع التدمير دون أن تترك أية أدلة.

لذا جاءت الأديان حريصة على الكلمة منبهة لأهميتها، فالقرآن الكريم جعل الويل للباخلين بالكلمة في الحث على إطعام المسكين، لأن هذا هو أبخل البخل.

لكن الملاحظ في الحياة أن هناك كثرة في الكلام تدل عليها فواتير الهواتف، وأصوات الفضائيات، وصفحات الجرائد، وكثرة الضجيج على المنابر وفي منصات التواصل الإنساني والاجتماعي.

لكن لماذا لم يحدث هذا الكلام شيئا ولم يغير واقعا ؟

هل لأن المتكلمين كثيرون لكنهم لا يقولون شيئا!

فهناك أكثر من مائة ألف خطيب يصعدون المنبر كل جمعة، دون أن تترك كلماتهم أثرا حقيقيا في النفوس والحياة.

هل لأن المتكلمين اهتموا ببريق الكلمة ورنينها وصنعتها دون معانيها؟ وتناسوا ان الكلمة سلاح، والسلاح بضاربه وليس بنوعه فقط.

هل لأن الكلمة أصبحت منفصلة عن واقعها فكانت مثل الطائرة تحوم في الجو دون أن تهبط في مدراج المطار؟

هل لأن قول الكلمة أصبحت وظيفة، يُعبأ الخطيب والزعيم نفسه بأكبر قدر منها ثم يلقيها على المستمعين كما تقصف “إف 16” الآمنين، متجاهلا أن للكلمة محراب في أعماق النفس يجب أن تشحن فيه طاقتها قبل أن تنطلق من بين الشفاة إلى الآخرين.

الكلمة طاقة، ولعل ما جاء “رسالة التوحيد” للشيخ محمد عبده يكشف عن اختيار السماء للعرب ليحملوا رسالتها إلى البشرية إذ يؤكد الشيخ أن:” أنفس ما كانت العرب تتنافس عليه من ثمار العقل، ونتائج الفطنة والذكاء، هو الغلَب في القول، والسبق إلى إصابة مكان الوجدان من القلوب ومقر الإذعان من العقول”.

فقدرة الكلمة على إصابة مكان الوجدان ومقر الإذعان يغير الإنسان ويحرضه على تغيير العالم، فالوجدان هو الطاقة المحركة لسلوك الإنسان والدافعة إليه.

لكن أن تضل الكلمة طريقها إلى الوجدان فلا يعني إلا شيئا واحدا، أن الكلمة تولد ميتة، وكيف يحي الميت الموتى؟!

أتذكر أن صديقي نصح شخصا أصيبت زوجته بمرض نفسي..ومع الضغوط عليه اقترب هذا الشخص من حافة الاكتئاب، فإذا بكلمة تأتيه لتقول له:”إن خسر أولادك أمهم فلا تجعلهم يخسروا أبيهم” كانت الكلمة أشبه بدواء ذو قوة علاجية فائقة اخترقت نفس الرجل ونفضت عنه آلامه وضغوطه، فنهض بالأعباء وواجه الحياة.

نحن نحتاج إلى الكلمة في السياسة، كلمات الزعيم والقائد يجب أن نستظل بها، وننطلق منها،  وكلما كان صادقا كانت كلمته أقوى من القانون، أما إذا أوكلها للبلغاء فإنها ستكون خطبة وتمضي.

نحتاج إلى الكلمة المشبعة بالنور من خطبائنا، كلمة تهدينا ولا تجعلنا نحمل الشحناء والخناجر.

نحتاج إلى الكلمة في حياتنا الاجتماعية، بين الزوج وزوجته وأولاده، كلمات تحفر الذاكرة الجميلة، وتصب الماء على بذور المودة الجافة لتنبت من جديد.

فالكلمة نور، وبعض الكلمات قبور.